2/03/2014 06:57:00 ص

مثل هــذا يستحق أن يقال له : أن هــذا الشبل من ذاك الأسد ؟؟!! ( 2 )


عالم رباني من علماء الإسلام على مدار التاريخ جمع الله له الكثير من خصال الخير فهو يجمع بين العلم والعمل والشجاعة والجهاد والبذل والزهد والورع، وعُرف بين علماء المسلمين بأمير المؤمنين في الحديث كما يقول عنه يحيى بن معين وهو أعلم أهل المشرق وأهل المغرب وما بينهما كما يصفه سفيان الثوري ذلكم هو الإمام عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي.

المولد والنشأة:
ولد ابن المبارك في سنة 118 هـ في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وكانت أمه خوارزمية فطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني تحيل ودخل إ ليه في السجن فسمع منه نحوا من أربعين حديثا ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومئة وأخذ عن بقايا التابعين وأكثر من الترحال والتطواف.
ويروى أن والده المبارك كان يعمل في بستان لمولاه، فطلب منه مولاه يومًا رمانًا حلوًا فذهب إلى البستان وأحضر رمانًا ولكنه لم يكن حلوًا وتكرر الأمر ثلاث مرات وفي كل مرة يأتيه برمان حامض فقال صاحب البستان أما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال المبارك: لا ياسيدي . فقال الرجل وكيف؟ فقال: لأني ما أكلت منه شيئًا قط حتى أعرف طعمه. فقال الرجل ولما لم تأكل منه؟ قال:  لأنك لم تأذن لي في ذلك. فأعجب الرجل بمبارك وعظمت مكانته عنده وكان لسيده بنتًا كثر خطابها فقال للمبارك من تراه يصلح لزواجها؟ فقال المبارك: إن أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب واليهود للمال والنصارى للجمال وهذه الأمة للدين فأعجب الرجل ثانية بعقله بعد ما أعجب بورعه، فذهب إلى أمها وأخبرها بما كان من أمر مبارك ثم قال: ما أرى لهذه البنت زوجًا غير المبارك! فزوجها إياه فولدت له عبدالله.
ونشأ ابن المبارك نشأة صالحة بين علماء عصره فحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية وحفظ الكثير من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم درس بعد ذلك الفقه، ولقد أنعم الله على ابن المبارك بحافظة قوية فقد كان سريع الحفظ ، فيروى أنه مر ذات يوم في صباه  برجل يخطب فأطال الرجل في الخطبة فلما انتهى قال ابن المبارك حفظتها فسمعه رجل من القوم فقال: هاتها إن كنت صادقًا، فأعادها عليه ولم يخطئ في حرف واحد.
جاب عبد الله بن المبارك بلاد الإسلام شرقًا وغربًا طلبًا للعلم ولاسيما الحديث وعندما مضى من عمره ثلاثة وعشرون ربيعًا نجده يرحل في طلب العلم إلى العراق والحجاز وغيرهما من بلاد الإسلام وحواضره العلمية والأدبية فالتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم العلم وكان من بين من تلقى على أيديهم الإمام مالك بن أنس وسفيان الثوري وسليمان التيمي وحميد الطويل ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي وشعبة وأبو حنيفة النعمان وغيرهم من العلماء الأفذاذ وروى عنه الكثير من العلماء وكان من بينهم يحيى بن معين والفضيل بن عياض وأبو بكر بن عباش وإسحاق بن راهويه ومعمر بن راشد وأبو إسحاق الغزاوي ونعيم بن حماد وغيرهم من أخذ عنه العلم رضي الله عنهم جميعًا.
صفاته:
أتسم عبد الله بن المبارك بكل ما يتسم به الرجل الرباني لدرجة أن أحد العلماء وهو ابن عيينة قال فيه "نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم للنبي وغزوهم معه" ومن بين تلك الصفات التي تحكى عن ابن المبارك الخشية وهي نابعة من علمه الغزير مصدقًا لقول الحق "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه "كفى بخشية الله علماء وكفى بالاغترار به جهلاً" وروي أن القاسم بن محمد رافق ابن المبارك في سفر وكان دائمًا ما يسأل نفسه: بماذا فُضَّل علينا ابن المبارك حتى أشتهر بين الناس؟ فهو لا يفعل غير ما نفعل ولما كانت ليلة من ليال السفر  في الطريق جلسوا يتناولون عشاءهم فانطفأ السراج فقام أحدهم يبحث عن ما يوقد به السراج فمكث قليلاً ثم عاد فنظرت في وجه ابن المبارك فإذا بدموعه قد بللت لحيته فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضَّل هذا الرجل علينا ولعله بهذه الظلمة ذكر يوم القيامة"
وقال نعيم: قيل لابن المبارك: ألا تستوحشن بكثير جلوس في البيت؟ فقال: كيف استوحشن وأنا مع النبي وصحبه.
وقال عنه نعيم أيضًا "كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق فكأنه بقرة منحورة من البكاء" ويروى أيضًا أنه كان يقوم الليل يكرر "ألهاكم التكاثر" لا يستطيع تجاوزها.
حبه للجهاد:
ومن أخص صفات ابن المبارك جهاده في سبيل الله عز وجل فقد كان داعية مجاهدًا يغزو كل سنة بلاد الروم ويتخذ من طرسوس مقرًا له، ونراه ينكر على الفضيل بن عياض اعتزاله مكة وتركه الجهاد بأبيات تحرك الوجدان وتبرز فهم ابن المبارك العميق للإسلام فيقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا             لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه           فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل            فخيولنا يوم الكريهة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا             رهج السنابك والغبار الأطيب
لا يستوي غبار خيل الله في             أنف إمرئ ودخان نار تلهب
فلم يكتفِ ابن المبارك بالعبادة والزهد ويعتمد عليها ويترك الجهاد كما يفهم بعض المسلمين الآن بل إنه يلوم أصحاب هذا الفهم ويبين أن مصاولة دعاة الكفر أعظم قربة إلى الله.
كما كان ابن المبارك ماهرًا أيضًا في الحرب وهذا يرويه لنا عبد الله ابن سنان يقول "كنت مع ابن المبارك في حرب الروم فخرج رومي فطلب المبارزة فخرج له رجل من المسلمين فقتله ثم خرج له ثان وثالث حتى قتل ستة ثم صاح يطلب المبارزة فخرج إليه رجل ملثم فقتله ثم طلب المبارزة فخرج ستة واحدًا بعد الآخر فقتلهم جميعًا ثم ولى بعد أن جنبوا عن بقائه فإذا أنا به في الموضع الذي كان فقال: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحدًا وأنا حي"
مستجاب الدعوة:
كان ابن المبارك حريصًا على أكل الحلال لذا كان مستجاب الدعاء ويروي في ذلك الحسن بن عرفة "أن ابن المبارك استعار قلمًا بأرض الشام ونسى أن يرده إلى صاحبه فلما قدم مرو نظر فإذا القلم معه فرجع إلى أرض الشام حتى يعيد القلم" من أجل هذا وغيره كان مستجاب الدعاء وهذا ما يرويه أبو وهب " من أن ابن المبارك مر برجل أعمى فقال الرجل هل أسألك أن تدعو لي الله أن يرد علي بصري؟ فدعا له فرد الله عليه بصره.
الجود والكرم مع الزهد:
كان ابن المبارك يعمل تاجرًا وعلى الرغم من انصرافه إلى العبادة والجهاد إلا أنه كان تاجرًا ماهرًا فكثر المال بين يديه فكان ينفق هذا المال في سبيل الله على الغزاة وحجاج بيت الله والفقراء والمساكين وطلاب العلم ولذلك كان يقول للفضيل بن عياض (لولا أنت وأصحابك ما اتجرت) وكان ينفق على الفقراء في العام مائة ألف درهم
ومع هذا كله كان - رضي الله عنه - زاهدًا في الدنيا ومتاعها وزخارفها فقد روى عنه أنه كان يطعم الناس من كل لذيذ طيب وهو الدهر صائم في الحر الشديد
وكان إذا أراد الحج دعا أهل مرو ليخرجوا معه فيجمع نفقاتهم ويضعها في صندوق ويسافر معهم فينفق عليهم من ماله ويشتري لهم ما يريدون من بلاد الحجاز ثم يعودون إلى مرو فيدعوهم بعد العودة إلى وليمة فيطعمهم ثم يعطي كل واحد منهم النفقات التي أخذها منه مسبقًا كل ذلك وغيره قربة لله تعالي فما ترك ابن المبارك بابًا من أبواب الخير إلا ولجه وكان إمامًا فيه.
ثناء العلماء عليه:
جمع عبد الله بن المبارك كل خصال الخير فإذا به واحدًا من أهم علماء الإسلام على مدار التاريخ، يقدم لأبناء الإسلام القدوة الصالحة والنموذج الذي ينبغي إتباعه لذا عرف العلماء قدره وأنزلوه المنزلة التي تليق بعالم رباني متجر لله فقال فيه عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأت عيناي أنصح لهذه الأمة من ابن المبارك" ويقول أيضًا "كنا عند الفضيل فنعى ابن المبارك"فقال: رحمه الله أما إنه ما خلف بعده مثله
وقال سفيان "إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنه واحدة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام"
ويقول أيضًا "إن ابن المبارك أعلم أهل المشرق والمغرب وما بينهما"
أما الحروزي فيروي أن أحمد ابن حنبل قال: "ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له"
كلماته الخالدة:
روى عن ابن المبارك كثيرًا من العبارات التي تعد من جوامع الكلم لأنها بحق جماع للدنيا والدين ومن بين تلك العبارات:
عندما سُئل إلى متى تكتب الحديث قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد"
وكان يقول: لأن أرد درهمي من شبهة أحب إلىَّ من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف"
وقال رجل لابن المبارك أوصني. قال: أعرف قدرك
وقال رجل له: هل بقى من ينصح؟ فقال: وهل تعرف من يقبل؟! لا تكاد تواتينا إلا على كره فينبغي أن تكررها"
وكان يقول "الدنيا سجن المؤمن وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ وليس للمؤمن في الدنيا دولة وإنما دولته في الآخرة وليس من الدنيا إلا قوت اليوم"
- يقول: إن كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصيته من ذهب"
وفاته رضي الله عنه:
توفى عبد الله بن المبارك لثلاث عشر ليلة خلت ومن شهر رمضان لسنة واحد وثمانين بعد المائة من الهجرة في خلافة هارون الرشيد وكان عائدًا من الغزو عن عمر يناهز الثلاثة والستين عامًا، ولما بلغ الرشيد وفاته قال: مات اليوم سيد العلماء.
ويروى تمكنه أنه لما حضرته الوفاة أقبل رجل يدعى نصير يقول له: يا أبا عبد الرحمن قل: لا إله إلا الله فقال يا نصير قد ترى شدة الكلام على فإذا سمعتني قلتها فلا تردها علي حتى تسمعني قد أحدثت بعدها كلامًا"
ويقول محمد بن فضيل بن عياض "رأيت عبد الله بن المبارك في المنام فقلت أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال الأمر الذي كنت فيه. قلت الرباط والجهاد؟ قال: نعم. قلت: فأي شيء  صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة وكلمتني امرأة من أهل الجنة..."
إن هذه الكلمات القليلة لا تزيد على أن تكون قطرة من فيض أو لمحة من مآثر لا تحصيها ولا تصل إلى كفهها أقلام الكتاب ولما لا وقد مدحه الحاكم النيسابوري بقوله "هو إمام عصره في الآفاق وأولاهم بذلك علمًا وزهدًا وشجاعةً وسخاء..."


غفر الله لي ولك وله ولوالدينا
ولجميع المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
الذين شهدوا لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة
وللخلفاء الراشدين بالخلافة وماتوا على لك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق